فصل: فصل في الوصول إلى الله:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.فصل في الوصول إلى الله:

الوصول إلى الله نوعان: أحدهما فِي الدُّنْيَا، والثاني فِي الآخرة. فأما الوصول الدنيوي فالمراد به: أن القُلُوب تصل إلي معرفته، فإِذَا عرفته أحبته، وأنست به فوجدته منها قريباً، ولدعائها مجيباً، كما فِي بعض الآثار: «ابن آدم اطلبني تجدني فإن وجدتني وجدت كُلّ شَيْء، وإن فتك فاتك كُلّ شيء».
الصراط المستقيم فِي الدُّنْيَا يشتمل عَلَى ثلاث درجات: درجة الإسلام، ودرجة الإيمان، ودرجة الإحسان. فمن سلك درجة الإسلام إلي أن يموت عَلَيْهَا منعته من الخلود فِي النار، ولم يكن لَهُ بد من دخول الْجَنَّة، وإن أصابه قبل ذَلِكَ ما أصابه.
ومن سلك عَلَى درجة الإيمان إلي أن يموت عَلَيْهَا منعته من دخول النار بالكلية فإن الإيمان يطفئ لهب نار جهنم حتي تَقُول: يا مُؤْمِن جز فقَدْ أطفأ نورك لهبي.
وفِي المسند عن جابر رَضِيَ اللهُ عنهُ مرفوعاً: «لا يبقي بر ولا فاجر إلا دخلها فتَكُون عَلَى المُؤْمِن برداً وسلاماً كما كانت عَلَى إبراهيم، حتي إن للنار ضجيجاً من بردهم، هَذَا ميراث ورِثَه المحبونه من حال أبيهم إبراهيم عَلَيْهِ السلام».
ومن سلك عَلَى درجة الإحسان إلي أن يموت عَلَيْهَا وصل بعد الموت إلي الله: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}. وفِي الْحَدِيث الصحيح: «إِذَا دخل أَهْل الْجَنَّة الْجَنَّة نادي مناد يا أَهْل الْجَنَّة إن لكم عِنْدَ الله موعداً يريد أن ينجزكموه. فيقولون: ما هو؟ ألم يبيِّض وجوهنا؟ ألم يثقل موازيننا؟ فوَاللهِ ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم، ولا أقر لأعينهم من النظر إليه، وَهُوَ الزيادة، ثُمَّ تلا: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}».
كل أَهْل الْجَنَّة يشتركون فِي الرواية ولكن يتفاوتون فِي القرب فِي حال الرؤية. عموم أَهْل الْجَنَّة يرون ربهم يوم المزيد وَهُوَ يوم الْجُمُعَة، وخواصهم ينظرون إلي وجه الله فِي كُلّ يوم مرتين بكرة وعشياً. العارفون لا يسليهم عن محبوبهم قصر ولا يرويهم دونه نهر.
وَيَرُونَهُ سُبْحَانَهُ مِنْ فَوقِهِمْ ** نَظَرَ العِيَانِ كَمَا يُرَى القَمَرانِ

هَذَا تَوُاتَرَ عن رَسُوْلِ اللهِ لم ** يُنْكِرُهُ إلا فَاسِدُ الإيمان

وَأَتَى بِهِ القُرّآنُ تَصْرِيَحاً وَتَعْـ ** ـريْضاً هُمَا بسِيَاقِهِ نَوْعَانِ

وَهِيَ الزِيادَةُ قَدْ أَتَتْ فِي يُونُسٍ ** تَفْسِيرَ مَنْ قَدْ جَاءَ بِالقُرّآنِ

وَهِيَ المَزْيِدُ كَذَاكَ فَسَرَهُ أَبُو ** بَكْرٍ هُوَ الصِدْيِقُ ذُوْ الإيمان

وعَلَيْهِ أَصْحَابُ الرَّسُولِ تَتَابَعُو ** هُمْ بَعْدَهُمْ تَبَعِيَةَ الإحْسَان

اللَّهُمَّ امنُنْ عَلَيْنَا بإصلاح عيوبنا واجعل التقوي زادنا وفِي دينك اجتهادنا وعليك توكلنا واعتمادنا وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلى الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
فصل:
وفِي المسند عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً: «إن أدني أَهْل الْجَنَّة منزلة لينظر فِي ملكه ألفِي سنة يري أقصاه كما يري أدناه، ينظر إلي أزواجه وخدمه، وإن أفضلهم منزلة لمن ينظر إلي وجه الله تبارك وتعالى كُلّ يوم مرتين» وأخرجه الترمذي، ولفظه: «إن أدني أَهْل الْجَنَّة منزلة لمن ينظر إلي أزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة».
وأكرمهم عَلَى الله من ينظر إلي وجهه غدوة وعشياً ثُمَّ قَرَأَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ولهَذَا المعني قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيث الصحيح حديث جرير بن عَبْد اللهِ البجلي: «إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون فِي رؤيته». قال: «فإن استطعتم إلا تغلبوا عَلَى صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبِهَا فافعلوا». ثُمَّ قَرَأَ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}.
ولما كَانَ هذان الوقتان فِي الْجَنَّة وقتان للرؤية فِي خواص أَهْل الْجَنَّة، خص صلى الله عليه وسلم عَلَى المحافظة عَلَى الصَّلاة فِي هذين الوقتين فِي الدُّنْيَا فمن حافظ عَلَى هاتين الصلاتين فِي الدُّنْيَا فِي هذين الوقتين وصلاهما عَلَى أكمل وجوههما وخشوعهما وحضورهما وأدبهما فإنه يرجي لَهُ أن يكون ممن يري الله فِي هذين الوقتين فِي الْجَنَّة، لاسيما إن حافظ بعدهما عَلَى الذكر وأنواع العبادات حتي تطلع الشمس أو تغرب.
فإن وصل الْعَبْد ذَلِكَ بدلجة آخر الليل فقَدْ اجتمَعَ لَهُ السير فِي الأوقات الثلاثة وهي: الدلجة، والغدوة، والروحة، فيوشك أن يعقبه الصدق فِي هذَا السير الوصول الأعظم إلي ما يطلبه فِي مقعد صدق عِنْدَ مليك مقتدر.
من لزم الصدق فِي طلبه أداه الصدق إلي مقعد الصدق {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ}.
المحب لا يقطع السؤال عمن يحب ويتحسس الأخبار وينسم الرياح ويستدل بآثار السلوك عَلَى الطَرِيق إلي محبوبه.
لَقَدْ كبرت همة الله مطلوبِهَا وشرفت نفس الله محبوبِهَا: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}.
مَا لِلْمُحْبِ سِوَى إِرَادَةَ حُبِهِ ** إِنَّ المُحِبَ بِكُلِّ بَرٍ يُصْرَعُ

قيمة كُلّ امريءٍ ما يطلب، فمن كَانَ يطلب الله فلا قيمة لَهُ من طلب الله فهو أجل من أن يقوم. ومن طلب غيره فهو أخس من أن يكون لَهُ قيمة.
قال الشبلي: من ركن إلي الدُّنْيَا أحرقته بنارها فصار رماداً تذروه الرياح، ومن ركن إلي الآخرة أحرقته بنورها فصار سبيكة ذهب ينتفع به، ومن ركن إلي الله أحرقه نور التَّوْحِيد فصار جوهراً لا قيمة له.
اللَّهُمَّ هب لنا ما وهبته لأوليائك وتوفنا وأَنْتَ راض عنا وقَدْ قبلت اليسير منا وَاجْعَلْنَا يا مولانَا من عبادك الَّذِينَ لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أرحم الراحمين.
وصلى الله عَلَى مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين.
فصل:
فِي قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} هذه الآية كانت تشتد عَلَى الخائفين من العارفين، فإنها تقتضي أن من العباد من يبدو لَهُ عِنْدَ لقاء الله ما لم يكن يحتسب لَهُ، ولهَذَا قال عمر رَضِيَ اللهُ عنهُ: لَوْ أن لي ملك الأرض لافتديت به من هول المطلع.
وفِي الْحَدِيث: «لا تمنوا الموت فإن هول المطلع شديد، وإن من سعادة المرء أن يطول عمره ويرزقه الله الإنابة».
وَقَالَ بعض حكماء السَّلَف: كم موقف خزي يوم القيامة لم يخطر عَلَى بالك قط. ونظير هَذَا قوله تعالى: {لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} واشتمل عَلَى ما هُوَ أعم من ذَلِكَ وَهُوَ أن يكون لَهُ أعمال يرجو بِهَا الْخَيْر فتصير هباءً منثوراً وتبدل سيئاتٍ. وقَدْ قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}. وَقَالَ: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً}.
وَقَالَ الفضيل فِي هذه الآية: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} قال: عملوا أعمالاً وحسبوا أنها حسنات فإِذَا هِيَ سيئات. وقريب من هَذَا أن يعمل الإنسان ذنباً يحتقره ويستهون به فيكون هُوَ سبب هلاكه. كما قال تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ}.
وَقَالَ بعض الصحابة: إنكم تعملون أعمالاً هِيَ فِي أعينكم أدق من الشعر، كنا نعهدها عَلَى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات، وأصعب من هَذَا زين لَهُ سوء عمله فرآه حسناً. قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً}.
قال ابن عيينة: لما حضرت مُحَمَّد بن المنكدر الوفاة جزع فدعوا لَهُ أبا حازم فَجَاءَ فَقَالَ لَهُ ابن المنكدر: إن الله يَقُولُ: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} فأخاف أن يبدو لي من الله ما لم أكن أحتسب. فجعلا يبكيان جميعاً. أخرجه ابن أبي حاتم. وزَادَ ابن أبي الدنيا. فَقَالَ لَهُ أهله: دعوناك لتخفف عَلَيْهِ فزدته فأخبرهم بما قال.
وَقَالَ الفضيل بن عياض: أخبرت عن سليمان التيمي أنه قيل لَهُ: أَنْتَ أَنْتَ ومن مثلك؟ فَقَالَ مه لا تقولوا هَذَا لا أدري ما يبدو لي من الله. سمعت الله يَقُولُ: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ}.
وكَانَ سفيان الثوري يَقُولُ عِنْدَ هذه الآية: ويل لأَهْل الرياء من هذه الآية، وهَذَا كما فِي حديث الثلاثة الَّذِينَ هم أول من تسعر بِهُمْ النار، العَالم والمتصدق والمجاهد. وكَذَلِكَ من عمل أعمالاً صَالِحَة وكانت عَلَيْهِ مظَالم فهو يظن أن أعماله تنجيه فيبدو لَهُ ما لم يكن يحتسب، فيقتسم الغرماء أعماله كُلّهَا ثُمَّ يفضل لهُمْ فضل فيطرح من سيئاتهم عَلَيْهِ ثُمَّ يطرح فِي النار.
وقَدْ يناقش الحساب فيطلب منه شكر النعم فتَقُوم أصغر النعم فتستوعب أعماله كُلّهَا وتبقي بقية فيطالب بشكرها فيعذب.
ولهَذَا قال عَلَيْهِ الصَّلاة والسَّلام: «من نوقش الحساب عذب أو هلك». وقَدْ يكون لَهُ سيئات تحبط بعض أعماله أو أعمال جوارحه سوي التَّوْحِيد فيدخل النار.
وفِي سنن ابن ماجة من رواية ثوبان مرفوعاً: «إن من أمتي من يجيئ بأعمال أمثال الجبال فيجعلها الله هباءً منثوراً». وفِيه: «وهم قوم من جلدتكم ويتكلمون بألسنتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون من الليل ولكنهم قوم إِذَا خلوا بمحارم الله انتهكوها».
وأخرجَ يعقوب بن أبي شيبة وابن أبي الدُّنْيَا فِي حديث سالم مولي أبي حذيفة مرفوعاً: «ليجَاءَ يوم القيامة بأقوام معهم من الحسنات مثل جبال تهامة، حتي إِذَا جئ بِهمْ جعل الله أعمالهم هباءً ثُمَّ أكبهم فِي النار».
قال سالم: خشيت أن أكون منهم. فَقَالَ أما أنَّهُمْ كَانُوا يصومون ويصلون ويأخذون هنيهة من الليل، لعلهم كَانُوا إِذَا عرض لهُمْ شَيْء سراً حراماً أخذوه فأدحض الله أعمالهم. وقَدْ يحبط الْعَمَل بآفة من رياء خفِي أو عجب به ونحو ذَلِكَ ولا يشعر به صاحبه.
قال ضيغم العابد: إن لم تأت الآخرة بالسرور لَقَدْ اجتمَعَ عليه الأمران هم الدُّنْيَا وشقاء الآخرة. فقيل لَهُ: كيف لا تأتيه الآخرة بالسرور وَهُوَ يتعب فِي دار الدُّنْيَا ويدأب؟ قال: كيف القبول، كيف بالسلامة.
ثُمَّ قال: كم من رجل يري أنه قَدْ أصلح عمله يجمَعَ ذَلِكَ كله يوم القيامة ثُمَّ يضرب به وجهه، ومن هنا كَانَ عامر بن عبد قيس وغيره يقلقون من هذه الآية: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}.
وَقَالَ ابن عون: لا تثق بكثرة الْعَمَل، فإنك لا تدري يقبل منك أم لا، ولا تأمن ذنوبك فإنك لا تدري هل كفرت عنكَ أم لا؟ لأن عملك عنكَ مغيب كله لا تدري ما الَّذِي صانع به. وبكي النخعي عِنْدَ الموت وَقَالَ: أنتظر رسول رَبِّي ما أدري أيبشرني بالْجَنَّة أو النار؟
وجزع غيره عِنْدَ الموت، قيل لَهُ تجزع؟ قال: إنما هِيَ ساعة ولا أدري أين يسلك بي؟ وجزع بعض الصحابة عِنْدَ موته، فسئل عن حاله فَقَالَ: إن الله قبض خلقه قبضتين، قبضة للجنة وقبضة للنار ولست أدري فِي أي القبضتين أنا؟
ومن تأمل هَذَا حق التأمل أوجب لَهُ القلق فإن ابن آدم متعرض لأهوال عظيمة من ذَلِكَ، الوقوف بين يدي الله عَزَّ وَجَلَّ ودخول النار ويخشي عَلَى نَفْسهِ الخلود فيها بأن يسلب إيمانه عِنْدَ الموت، ولم يأمن المُؤْمِن شيئاً من هذه الأمور: {فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}. فتحقق هَذَا، يمنع ابن آدم القرار.
إِذَا افْتَكَرَ اللَّبِيْبُ رَآى أُمُوْراً ** تَرُدُ الضَّاحِكَاتِ إِلى الوُجُوْم

رأي بَعْضهمْ قائلاً يَقُولُ لَهُ:
وَكَيْفَ تَنَامُ العَيْنُ وَهِيَ قَرْيْرَةٌ ** وَلم تَدْرِ فِي أَيْ المَحَلَيْنِ تَنْزِلُ؟

وسئل بعض الموتي وكَانَ مجتهداً عن حاله؟ فأنشد يَقُولُ:
ولَيْسَ يَعْلَمُ مَا فِي القَبْرِ دَاخِلَهُ ** إلا الإلَهُ وَسَاكِنِ الأجْداث

وَقَالَ غيره:
أَمَا وَاللهِ لَوْ عَلِمَ الأنَامُ ** لِمَا خُلِقُوا لِمَا غَفَلُوا وَنَامُوا

لَقَدْ خُلِقُوا لِمَا لَوْ أبْصَرَتْهُ ** عُيِونُ قُلُوبِهِمْ تَاهُوا وَهَامُوا

مَمَاتٌ ثُمَّ قَبْرٌ ثُمَّ حَشْرٌ ** وَتَوبِيْخٌ وأَهْوالٌ عِظَامُ

اللَّهُمَّ ثَبِّتْ إيماننا بك ومحبتك فِي قلوبنا ثبوت الجبال الراسيات واعصمنا يا مولانَا مِنْ جَمِيعِ الموبقات ووفقنا للعمل بالباقيات الصالحات وارفع منازلنا فِي فسيح الجنات وارزقنا النظر إلي وجهك الكريم يا حكيم يا عليم يا حي يا قيوم وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ...

.فَصْل فِي الرِّيَاء:

اعْلم عصمنا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع المُسْلِمِيْنَ أن القُلُوب تمرض كما تمرض الأبدان بل مرضها أشد ومن أمراضها الرياء وَهُوَ من أخطر أمراض القُلُوب ومن الأوباء الأخلاقية الضارة التي تحتاج إلي علاج دائم ويقظة مستمرة وَهُوَ مأخوذ من الرؤيا لأن المرائي يري النَّاس فعله للخَيْر ليثنوا عَلَيْهِ ويحمدوه ويأمنوه فيستولي بذَلِكَ عَلَى قُلُوبهمْ فيكون لَهُ سلطان عَلَيْهمْ يصل به إِلى لَذَّتِهِ وَيَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى تَحْصِيلِ شَهَوَاتِهِ وَهَذَا الرِّيَاء إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ رَجُلٍ قَصُرَ نَظَرَهُ وَرَقَّ دِينُهُ فَإِن هَذَا هُوَ الَّذِي يَتَصَوَّرُ أَنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْهُ يُصَلِّي كَثِيراً أَوْ رَأَوْهُ يُطِيلُ الصَّلاة أَوْ يَصُومُ النَّوَافِلَ أَوْ يَحُجُّ أَوْ يَتَصَدَّقَ أَوْ يَفْعَلُ أَيَّ فَعْلٍ مِنْ أَفْعَالِ الْخَيْرِ يَحْسِنُونَ بِهِ الظَّنَّ وَيُعَامِلُونَهُ مُعَامَلَةً خَاصَّةً تَتْرُكُهُ فِي دُنْيَاهُ فِي سُرُور.
كُنْ بِخُمُولِ النُّفُوسِ قَانِعْ ** لا تَطْلُبْ الذكْرَ فِي الْمَجَامِعْ

فَلَنْ يَزَالَ الْفَتَى بِخَيْرٍ ** مَا لم تُشِر نَحْوَهُ الأصَابِعْ

وَأَمَّا الْعَاقِلُ بَعِيدُ النَّظَرِ صَادِقُ الإيمان فَإِنَّهُ يَعْلم عِلْماً يَقِيناً لا يَشُوبُهُ الظَّنُّ أَنَّ الأمر كُلّهُ دُنْيًا وَأخْرَى للهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ الْعَالم كُلَّهُ أَعْجَزُ مِنْ أَنْ يَدْفَعَ أَجَلاً أَوْ يُكْثِرَ رِزْقاً أَوْ يُجِيرَ مِنْ نَائِبَةٍ تَنْزِلُ عَلَى الإنسان كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «وَاعْلم أَنَّ الأمَّةَ لَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْء لم يَنْفَعُوكَ إلا بِشَيْء قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْء لم يَضُرُّوكَ إلا بِشَيْء قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ». فَإِذَا كَانَ الْخَلْقُ بِهَذَا الضَّعْفِ فَلا يَلْتَفِتُ لِمُرَاآتِهِمْ إلا مَنْ كَانَ سَخِيفَ الْعَقْلِ وَضَعِيفَ الدِّيْن عَلَى أَنَّ رِيَاءَ الْمُرَائِي لا يَخْفِي حَتَّى عَلَى الْخَلْقَ غَالِباً فَإِنَّ حَرَكَاتِهِ لا تَشْتَبِهُ بِأَعْمَالِ الْمُخْلِصِينَ الَّذِينَ قَدْ اسْتَوَتْ ظَوَاهِرُهُمْ وَبَوَاطِنُهُمْ عَلَى السَّوَاءِ.
قَالَ عَلَى كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ: لِلْمُرَائِي ثَلاثُ عَلامَاتٍ أَوْلاً أَنَّهُ يَكْسَلُ إِذَا كَانَ وَحْدَهُ وَيَنْشَطُ إِذَا كَانَ فِي النَّاسِ وَيَزِيدُ فِي الْعَمَل إِذَا أَثْنِيَ عَلَيْهِ النَّاسُ وَيَنْقُصُ إِذَا ذُمَّ وَقَدْ وَرَدَتْ آيَاتُ وَأَحَادِيثُ وَآثَارٌ تَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الرِّيَاءِ وَأَنَّهُ مَمْقُوتٌ مِنْهَا قَوْلُ اللهِ تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} وَقَالَ تعالى: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ}.
قَالَ مُجَاهِد: هُمْ أَهْلُ الرِّيَاءِ، وَقَالَ تعالى: {مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} نَزَلَ ذَلِكَ فِي مَنْ يَطْلُبُ الأجَر وَالْحَمْدَ بِعِبَادَاتِهِ وَأَعْمَالِهِ.
وَأَمَّا الأحَادِيث فَعن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعْمَتَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيها؟ قَالَ: قَاتَلْتَ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لأَنْ يُقَالُ هُوَ جَرِيءٌ فَقَدْ قِيل ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أَلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجَلٌ تَعَلم الْعِلم وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعْمَتَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلتَ فِيه قَالَ تَعَلمتَ الْعِلم وَعَلمتَهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنِ قَالَ كَذِبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلمتَ لِيُقَالُ عَالم وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالُ هُوَ قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أَلْقِيَ فِي النَّارِ وَرَجَلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَال فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيه ا قَالَ مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيه إلا أَنْفَقْتَ فِيه لَكَ قَالَ كَذِبْتَ وَلِكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالُ هُوَ جَوَّادٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أَلْقِيَ فِي النَّارِ». رَوَاهُ مُسْلم وَالنِّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّان.
وَعن عَبْدِ اللهِ بن عمرو بنِ العاصِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَخْبِرْنِي عن الْجِهَادِ وَالْغَزْوِ فَقَالَ: «يَا عَبْدَ اللهِ بن عَمْرِو إِنْ قَاتَلْتَ صَابِراً مُحْتَسِباً بَعَثَكَ اللهُ صَابِراً مُحْتَسِباً وَإِنْ قَاتَلْتَ مُرَائِياً مُكَاثِراً بِعَثَكَ اللهُ مُرَائِياً مُكَاثِراً يَا عَبْدَ اللهِ بنَ عَمْروٍ عَلى أَيِّ حَالٍ قَاتَلْتَ أَوْ قُتِلْتَ بَعَثَكَ اللهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ». رواه أبو داود.
وَعن أَبِي بن كَعْبٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «بَشِّرْ هَذِهِ الأمَّةَ بِالسَّنَا وَالرِّفْعَةِ وَالدِّينِ وَالتَّمْكِينِ فِي الأرض فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمِلَ الآخرة لِلدُّنْيَا لم يَكُنْ لَهُ فِي الآخرة مِنْ نَصِيبٍ». رَوَاهُ أَحَمَدُ وَابنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكم وَالْبَيْهَقِي، إِذَا فَهِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلم أَنَّ هُنَاكَ أُمُوراً خَمْسَةً:
1- مُرَاءٍ وَهُوَ الْعَابِدُ الَّذِي يُظْهِرُ خِصَالَ الْخَيْر.
2- ومُرَائي وَهُمْ الْخَلْقُ الَّذِينَ يُظْهِرُ الْمُرَائِي لَهُمْ أَعْمَالَهُ.
3- وَمُرَاء لأَجْلِهِ وَهُوَ الْجَاهُ وَالْمَالُ وَالسُّلْطَانُ وَحُبُّ الْحَمْدِ وَكَرَاهَةُ الذَّمِّ وَرِيَاءٌ وَهُوَ قَصْدُ إِظْهَارِ الْعِبَادَةِ لذَلِكَ الْغَرَضِ.

.أقسام المرائين بالعبادات:

وَالْمُرَاؤن بالعبادات أَقْسَامٌ:
الْقِسْمُ الأوَّلُ: الْمُرَاؤُنَ فِي الْعَقَائِدَ الدِّينِيَّةِ وَهُمْ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ لِلنَّاسِ أنَّهُمْ مُوَحِّدُونَ يَشْهَدُونَ أَنَّ لا إِله إلا اللهِ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ خِلافَ ذَلِكَ أَوْ يُظْهِرُونَ أنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ جَنَّةٍ أَوْ نَارٍ وَيُظْهِرُونَ لِلنَّاسِ أنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْمَلائِكَةِ وَيُصَدِّقُونَ بِوُجُودِهِمْ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ فِي قُلُوبِهِمْ غَيْرَ ذَلِكَ وَلا رَيْبَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ كُفْرٌ نَاقِلٌ عن الْمِلَّةِ الإسلاميَّةِ بِالْكُلِّيَّةِ لأَنَّهُ تَكْذِيبٌ للهِ وَلِرَسُولِهِ وَصَاحِبُه إِنْ لم يَتُبْ فَهُوَ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ.
قَالَ اللهُ تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} فَهَذَا لِلْمُرَائِي الشِّرير الذَّلِق اللسانِ الَّذِي إِذَا تَكَلم رَاقَ كَلامُهُ لِلسَّامِعِ وَظَنَّهُ يَتَكَلم بِكَلامٍ نَافِعٍ وَيُؤَكَّد هَذَا الْمُرَائِي مَا يَقُولُ بِأَنَّهُ يُخْبِرُ أَنَّ اللهَ يَعْلم أَنْ مَا نَطَقَ بِهِ مُوَافِقٌ وَمُطَابِقٌ لِمَا فِي قَلْبهُ وَهُوَ كَاذِبٌ فِي ذَلِكَ لأَنَّهُ يُخَالِفُ قَوْلُه فِعْلَه.
وَقَالَ تعالى فِي الآية الأخرى: {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكم إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}.
وَمَا أَكْثَرَ أَشْبَاهِ هَؤلاءِ فِي زَمَنِنَا مِنْ مُنْكِرِي الْجِنِّ وَالْمَلائِكَة وَالْبَعْثَ مِمَّنْ نَجِدُهُمْ يَجْبَنُونَ عِنْدَ الْمُوَاجَهَةِ وَيَتَظَاهَرُونَ بِالإيمان عِنْدَ لِقَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَيَعْتَرِفُونَ بِوُجُودِهِمْ لِيَتَّقُوا الأذَى وَلِيَتَّخِذُوا هَذَا السِّتَارَ وَسِيلَةً لِلأذَى وَإِذَا انْفَرَدُوا مَعَ أَوْلِيَائِهِمْ مِنْ شَيَاطِينِ الإنس صَرَّحُوا بِمُعْتَقَدَاتِ قُلُوبِهِمْ وَتَفَكَّهُوا بِأَكْلِ لُحُومِ الْمُؤْمِنِين وَطَعنوا فِي الدِّين وَحَمَلَتِهِ وَصَرَّحُوا بِإنْكَارِ الْجِنِّ وَالْمَلائِكَةِ وَهَؤُلاءِ كَفَرَةٌ مُنَافِقُونَ وَالرِّيَاءُ فِي الْعَقِيدَة عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ أَكْبَرِ دَرَجَاتِ الرِّيَاءِ وَأَشَدَّهَا أَثَراً وَضَرَراً.
الْقِسْمُ الثَّانِي: الْمُرَاؤُنَ فِي الْفَرَائِضِ وَالأرْكَانَ الشَّرْعِيَّةِ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ أَرْكَانَ الدِّينِ مِنْ صَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَحَجٍ أَمَامَ النَّاسِ مِنْ أَجْلِ غَرَضٍ مِن الأغْرَاضِ الَّتِي ذَكَرتُ آنِفًا فَإِذَا خَلا الْوَاحِدُ مِنْهُمْ بِنَفْسِهِ لم يَعْمَلْ شيئاً فَلْوَلا الْغَرَضُ الَّذِي يُرِيدُ تَحْقِيقَهُ مَا صَامَ وَلا صَلَّى وَلا حَجَّ وَلا زَكَّى فَهَذَا الْعَمَلُ بَاطِلٌ لأَنَّهُ لم يُرِدْ بِهِ وَجْهَ اللهِ فَعن أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «تُعْرَضُ أَعْمَالُ بَنِي آدَمَ بَيْنَ يَدَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صُحُفٍ مُخَتَّمَةٍ فَيَقُولُ اللهُ أَلْقُوا هَذَا وَاقْبَلُوا هَذَا فَتَقُولُ الْمَلائِكَةُ يَا رَبُّ وَاللهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُ إلا خَيْراً فَيَقُولُ إِن عَمَلَهُ كَانَ لِغَيْرَ وَجْهِي وَلا أَقْبَلُ الْيَوْمَ مِن الْعَمَلِ إلا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهِي».
صَاحَ اسْتَمِعْ نُصْحًا أَتَاكَ مُفَصَّلاً ** كَتَفَصُّلِ الْعِقِيَانِ فَوْقَ لَئَآلِي

بَادِرْ بَقَايَا عُمْرِكَ الْفَانِي فَلا ** تَصْرِفْهُ إلا فِي الرِّضَا الْمُتَوَالي

وَاشْغَلْ فُؤَادَكَ دَائِباً مُتَفَكِّراً ** فِي مَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِ الإجْلالِ

وَاخْلِصْ عِبَادَتَكَ الَّتِي بَاشَرْتَهَا ** فِي الْقَوْلِ وَالأحوال وَالأفْعَال

وَاشْغلْ بِذِكْرِ اللهِ قَلْبَكَ لاهِجاً ** بِصِفَاتِهِ الْعُلْيَا بِلا إِمْلالِ

وَاجْعَلْ مَمَاتَكَ نَصْبَ عَيْنَيْكَ إِنَّهُ ** أَوْلَى الأمُورِ وَأَنْصَحُ الأحوال

وَاعْلم بِأَنَّكَ بَعْدَ ذَاكَ مُحَاسِبٌ ** فَاضْبُطْهُ لا تَكُ فِيه ذَا إِهْمَالِ

وَاعْلم بِأَنَّكَ بَعْدَ ذَلِكَ صَائِرٌ ** إِمَّا إِلى بُؤْسٍ أَوْ الإفْضَالِ

وَادْأَبْ عَلَى حِفْظِ الشَّرِيعَةِ سَالِكًا ** سُبْلَ الْهُدَى لا قَالِياً أَوْ غَالِي

وَابْدَأْ بِحِفْظِ الْقَلْبِ عن شُبُهَاتِهِ ** وَاعْرَفْ مَسَاوِيهَا عَلَى الإجْمَالِ

ثُمَّ اسْقِهِ مَاءَ الْحَيَاةِ بِوَاعِظٍ ** مِنْ مُحْكم التَّنْزِيلِ فِي إِجْلالِ

وَاحْرِسْ فَرَاغَكَ بِالتَّذَكُّرِ إِنَّهُ ** عُمُرٌ إِذَا مَا ضَاعَ مِنْكَ لَغَالي

وَاحْفَظْ جَوَارِحَكَ الَّتِي أُوتِيتَهَا ** عن كُلِّ مَا يَقْضِي بِكُلِّ نَكَالِ

وَاعْلم بِأَنَّكَ مَا خُلِقْتَ سَبَهْللاً ** فَاعْبُدْ آلهَ الْعَرْشِ بِالإقْبَالِ

وَاجْعَلْ سَلاحَكَ دَعْوَةً بِإِنَابَةٍ ** وَالْجَأْ إِلىمَوْلاكَ غَيْرَ مُبَالِي

وَاسْأَلْهُ لا تَسْأَمْ فَإِنَّكَ عَبْدُهُ ** فَهُوَ الْكَرِيمُ وَرَبُّ كُلِّ نَوَالِ

يَا رَبُّ فَاقْطَعْ عن فُؤَادِي كُلَّ مَا ** أَرْجُوهُ إلا مِنْكَ مِنْ آمَالِ

وَاغْسِلْهُ مِنْ دَرَنِ الذُّنُوبِ فَإنَّهُ ** مَرَضُ الْقُلُوبِ وَمُوجِبُ الإعْلالِ

وأَرِحْهُ مِنْ مَرَضِ الرِّيَاءِ فَإِنَّهُ ** أَصْلُ الْفَسَادِ وَأَفْسَدُ الأشْغَالِ

وَاخْتُمْ بِنَا بِالْخَيْرِ عَاجِلِهِ الَّذِي ** تَبْدُو حَلاوَةُ ذَوْقِهِ بِمَآلِ

وَاجْعَلْ صَلاتَكَ دَائِمًا تَتْرَى عَلَى ** كِنْزِ الْمَعَالِي السَّيِدِ الْمِفْضَالِ

وَكَذَا عَلَى آلٍ لَهُ وَصَحَابَةٍ ** أَهْلِ الْعُلا وَالْعِزِّ وَالإجْلال

فصل:
وَأَقْبَحُ أَنْوَاعُ الرِّيَاءِ: مَا فُعِلَ لِلْحُصُولِ عَلَى لَذَّةِ مُحَرَّمَةٍ كَأَنْ يَحْتَالَ عَلَى الْفِسْقِ بامْرَأَةٍ أَوْ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى سَلْبِ مَالٍ ظُلْماً وَعُدْوَانَاً أَوْ يَتَوَسَّلُ بِهِ إِلى إِيذَاءِ بَرِيءٍ فِي عِرْضِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ دِينِهِ وَصَاحِبُ هَذَا الْعَمَلِ مُعَرَّضٌ نَفْسه لِلْمُجَازَاتِ عَلَى عَمَلِهِ أَشَدَّ الْجَزَاءِ وَالْعِقَابِ عَلَيْهِ أَسْوَأَ الْعِقَابِ فِي يَوْمٍ يُؤْخَذُ فِيه الْمُجْرِمُونَ بِالنَّوَاصِي إِنْ لم يَتُبْ مِنْ عَمَلِهِ ذَلِكَ تَوْبَةً نَصُوحاً.
وِمِنْ أَنْوَاعِ الرِّيَاءِ الرِّيَاءُ فِي الْفَرَائِضِ الدِّينِيَّةِ لِلْحُصُولِ عَلَى لَذَّةٍ مُبَاحَةٍ.
لا يَغُرَّنَّكَ تَعْوِيجُ الْعنق ** وَلِبَاسُ الصُّوفِ وَالثَّوْبِ الْخَلَقْ

وَخُشُوعِ الْمَرْءِ فِي ظَاهِرِهِ ** وَهُوَ فِي الْخَلْوَةِ تِنِّينٌ حنِقْ

يَبْلَعُ الْفِيلَ مُسِراً فَإِذَا ** بَلَعَ الذَّرَّةَ فِي الْجَهْرِ اخْتَنَقْ

وِمِنْ أَنْوَاعِ الرِّيَاءِ، الرِّيَاءُ فِي الْفَرَائِضِ الدِّينِيَّةِ لِلْحُصُولِ عَلَى لَذَّةٍ مُبَاحَةٍ. كَأَنْ يَحْتَالَ بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ عَلَى الْحُصُولِ عَلَى مَالٍ بِطَرِيقِ الْهِبَةِ وَنَحْوِهَا وَلَوْلا هَذَا الْغَرَضَ مَا قَامَ بِأَدَائِهَا وَهَذَا شِرْك بِاللهِ بَلْ فِي الْحَقِيقَة عِبَادَةٌ لِلشَّهْوَةِ لا للهِ وَلَوْ كَانَ عِنْدَ صَاحِبِ هَذَا الْعَمَلِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِن الأدَبِ وَالْحَيَاءِ لَخَجِلَ مِنْ خَالِقِهِ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُخْلِصَ الْعِبَادَةَ لَهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَلَكِنَّهُ بَدَلاً مِنْ ذَلِكَ قَدْ جَعَلَ عِبَادَتَهُ وَسِيلَةً لاقْتِنَاصِ الْمَلاذِ وَالْحُصُولِ عَلَى الشَّهَوَاتِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: الْمُرَاؤُونَ بِالنَّوَافِلِ الَّتِي يُؤَدُّونَهَا فِي حَضْرَةِ النَّاسِ وَيَتْرُكُونَهَا إِذَا خَلَوْا أَوْ يَجِيدُونَ الْفَرَائِضَ وَيُطِيلُونَهَا فِي حَضْرَةِ النَّاسِ وَإِذَا انْفَرَدُوا خَفَّفُوا وَهَذَا أَيْضاً قَبِيحٌ وَلَكِنَّهُ دُونَ الأوَّلِ وَوَجْهُ قُبْحِهِ أَنَّ عِبَادَةَ اللهِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ خَالِصَةٌ لَهُ لا يَشُوبِهَا رِيَاءٌ أَبَداً فَمَنْ يُؤَدِّيهَا لَغَرَضٍ مِنْ الأغْرَاضِ فَقَدْ أَشْرَكَ فِيه مَعَ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ غَبِيٌّ مَمْقُوتٌ يَسْتَحِقُّ الذَّمِّ وَالْعِقَابَ إِنْ لم يَتُبْ لأَنَّهُ قَدْ اسْتَهَانِ بِعِبَادَةِ اللهِ وَجَعَلَهَا وَسِيلَةً لِلْحُصُولِ عَلَى الأغْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالشَّهَوَاتِ الْجِسْمَانِيَّةِ مَعَ أَنَّ النَّوَافِلَ مَثَلاً لم تُشْرَعْ إلا لِلْحُصُولِ عَلَى الثَّوَابِ الْكَثِيرِ وَالدَّرَجَاتِ الرَّفِيعَةِ عِنْدَ اللهِ تعالى فَانْقَلَبَتْ عَلَى الْمُرَائِي بِهَا شَرّاً وَوَبَإلا بِفِعْلِهَا رِيَاءً وَأَصْبَحَ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا عِقَاباً وَذَلِكَ فَسَادٌ وَخَلَلٌ عَظِيمٌ فَكم مِنْ إِنْسَانٍ يُرَائِي يَتَظَاهَرُ بِالصَّلاحِ وَيَتَبَاعَدُ عن مُحَقِّرَاتِ الذُّنُوبِ وَنَفْسِهِ فَاجِرَةٌ لا يَتَوَرَّعُ مِنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَاسْتِحْلالِهَا بِأَدْنَى الْوَسَائِل وعِنْدَ مُعَامَلَتِهِ فِي بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ اسْتِئْجَارٍ يَظْهَرُ مَخْبَرُهُ عَكْسَ مَنْظَرِهِ عَلَى حَدِّ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
مَا فِي الْكَثِيرِينَ إلا الْمَكْرَ وَالْمَلَقُ ** شَوْكٌ إِذَا اخْتُبَرُوا زَهْرٌ إِذَا رَمِقُوا

فَإِنْ دَعَاكَ إِلى قُرْبِ بِِِهِمْ قَدَرٌ ** فَدَارَهِمْ وَاقْتَربْ مِمَّنْ بِهُمْ تَثِقُ

هُمْ أُمُّ غَيْلانَ لا أَصْلٌ وَلا ثَمَرٌ ** وَلا نَسِيمٌ ولا ظِلٌّ وَلا وَرَقُ

جَفُّوا مِنْ اللؤم حَتَّى لَوْ أَصَابَهُمْ ** ضُوءُ السُّهَى فِي ظَلامِ اللَّيْلِ لا احْتَرَقُوا

لَوْ صَافَحُوا الْمُزْنَ مَا ابْتَلَتْ أَنَامِلُهُمْ ** وَلَوْ يَخُوضُونَ بَحْرَ الصِّينِ مَا غَرِقُوا

آخر:
قَوْمٌ هُموا شَرُّ خَلْقِ اللهِ كُلِّهِمُ ** وَأَخْبَثُ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا وَفِي الدِّينِ

هُمْ فِي الظَّوَاهِرِ زُهَّادٌ أَوْلو وَرَعٍ ** وَفِي الْبَوَاطِنِ إِخْوَانُ الشَّيَاطِينِ

يُحَرِّمُونَ الَّذِي حََلَّ الإلَه لَهُمْ ** وَيَسْتَبِيحُونَ أَمْوَالَ الْمَسَاكِينِ

يَا بِئْسَ مَا فَعَلُوا يَا بِئْسَ مَا تَرَكُوا ** وَهُمْ يُعِدُّونَ فِينَا بِالْمَلايِينِ

آخر:
مِنْ أَيّ نَوَاحِي الأرض ألقَى رِضَاكم ** وَأَنْتُمْ أُنَاسٌ مَا لِمَرْضَاتِهِمْ نَحْوُ

فَلا حَسَنٌ نَأْتِي بِهِ تَقْلِبُونَهُ ** وَلا إِنْ أَسَأنَا كَانَ عِنْدَكم عَفْوُ

وَيَقُولُ الآخر فِي الْمُرَائِينَ بِأَعْمَالِهم:
أَظْهَرُوا لِلنَّاسِ زُهْداً ** وَعَلَى الدِّينَارِ دَارُوا

وَلَهُ صَلَّوْا وَصَامُوا ** وَلَهُ حَجُّوا وَزَارُوا

لَوْ يُرَى فَوْقَ الثُّريّا ** وَلَهُمْ رِيشٌ لَطَارُوا

آخر:
إِنَّ الْجَلِيسَ يَقُولُ الْخَيْر تَحْسِبَهُ ** خَيْراً وَهَهْيَهَاتَ فَانْظُرْ مَا بِهِ الْتَمَسَا

قال ابن رجب رَحِمَهُ اللهُ: واعْلم أن الْعَمَل لغَيْر الله أقسام فتَارة يكون رياءً محضاً كحال المنافقين كما قال تعالى: {وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً}.
وهَذَا الرياء المحض لا يكاد يصدر عن مُؤْمِن فِي فرض الصَّلاة والصيام وقَدْ يصدر فِي الصدقة أو الحج الواجب أو غيرهما من الأعمال الظاهرة أو التي يتعدي نفعها فإن الإخلاص فيها عزيز وهَذَا الْعَمَل لا يشك مسلم أنه حابط وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة وتَارة يكون الْعَمَل لله ويشاركه الرياء فإن شاركه من أصله فالنصوص الصحيحة تدل عَلَى بطلانه أيضاً وحبوطه.
دَعِ الرِّيَاءَ لِمَنْ لَذَّ الرِّيَاءُ لَهُ ** فَإِنَّهُ الشِّرْكُ فَاحْذَرْ زَلَةَ القَدَمِ

وَمُتْ عَلَى المِلَّةِ السَمْحَاءِ مَوْتَ فَتَى ** رَأي الْمَمَاتَ عَلَيْهَا أَكْرَمَ الكَرَم

آخر:
يُلْبِسُ اللهُ فِي العَلاَنْيَةِ الْعَبْدَ الَّذِي ** كَانَ يَخْتَفِي فِي السَّرِيْرَةِ

حَسَناً كَانَ أَوْ قَبِيْحاً سَيُبْدَى ** كُلُّ مَا كَانَ ثُمَّ مِنْ كُلِّ سِيَرةِ

فَاسْتَحِ مِنَ اللهِ أَنْ تُرائِي لِلنَّاسِ ** فإِنَّ الرِّيَاءَ بِئْسَ الذَّخِيْرَة

وفِي صحيح مسلم عن أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عنهُ عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال يَقُولُ الله تبارك وتعالى: أَنَا أغني الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك معي فِيه غيري تركته وشركه، وأخرجه ابن ماجه ولفظه فأنَا منه بريء وَهُوَ للذي أشرك.
وأخرج الإمام أَحمَدُ عن شداد بن أوس عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: من صلي يرائي فقَدْ أشرك ومن تصدق يرائي فقَدْ أشرك فإن الله عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: أَنَا خَيْر قسيم لمن أشرك بي شيئاً فإن جدة عمله قليله وكثيره لشريكه الَّذِي أشرك به أَنَا عنهُ غني، وأخرج الإمام أَحمَدُ والترمذي من حديث أبي سعيد ابن أبي فضالة وكَانَ من الصحابة قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا جمَعَ الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فِيه نادا مناد من كَانَ أشرك فِي عمل عمله لله فليطلب ثوابه من عِنْدَ غَيْر الله عَزَّ وَجَلَّ، فإن الله أغني الشركاء عن الشرك انتهي وَاللهُ أَعْلم.
فصل:
القسم الرابع: من المرائين المتحدثين بأعمالهم بعد تمامها كأن يَقُولُ الواحد: صليت كَذَا وصمت كَذَا وحججت كَذَا من أفعال الْخَيْر وهَذَا وإن كَانَ لا يحبط الْعَمَل الَّذِي تم عَلَى وجه صحيح إلا أنه ينظر إلي مقصده من التحدث بذَلِكَ فإن كَانَ فساداً كَانَ محرماً وإن كَانَ فراراً من ذم النَّاس ورغبة فِي مدحهم بدون أن يقصد منها الوصول إلي غرض غَيْرَ ذَلِكَ كَانَ ملوماً من جهة واحدة وأنه قصد رياء النَّاس بطاعة الله وقَدْ علمت أن ذَلِكَ لا يجوز.
القسم الخامس: المراؤون بالهيئة والزي فترى الواحد من هؤلاء يتكلف الْعَمَل عَلَى نحول بدنه واصفرار وجهه كي يظهر بمظهر العابد الَّذِي أضناه وأنهكه السهر وانحل جسمه الصوم وَمِنْهُمْ من يتكلف خفض صوته أو يلبس ثوباً يختلف عن أثواب أهله وبني جنسه ليلفت أنظار النَّاس إليه هَذَا النوع من الرياء سخيف جداً لا يتأثر به إلا ضعاف العقول صغار النُّفُوس وكل هؤلاء من شرار النَّاس الَّذِينَ يجب عَلَى النَّاس أن يحذروا مِنْهُمْ ويمقتوهم ولا يبالوا بِهُمْ ولا بحليهم وأزيائهم.
تَقُوْمُ إِذَا مَا قِمْتَ تَشْفَعُ خُطْبَةً ** تُخَوِّفُ فِيه وَالدِمُوعُ تَزَيَّعُ

كَأَنَّكَ صَيَّادٌ تَسِيْلُ دُمُوْعُهُ ** مِنَ البَرْدِ وَالصَّيَادُ يَفْرِي وَيَقْطَعُ

يَجُذٌّ رِقَابَ الطَيِّرِ مِنْ غَيْرِ رَحْمَةٍ ** وعَيْنَاهُ مِنْ بَرْدِ العَشِيَّةِ تَدْمَعُ

تُزَهَّدُ فِي الدُّنْيَا وأَنْتَ بِنَهْبِهَا ** مُلِحُّ عَلَى الدُّنْيَا تَكُدٌّ وَتَجْمَعٌ

آخر:
أَرَى النَّاسَ فِي الدُّنْيَا كَرَاعٍ تَنَكَرَتْ ** مَراعِيهِ حَتَى لَيْسَ فِيهنَّ مَرْتَعُ

فَمَاءٌ بِلاَ مَرْعَى وَمَرْعَى بِغَيْرِ مَاءِ ** وَحَيْثُ تَرَى مَاءً فَمَرْعَى وَمَسْبَعُ

ثُمَّ اعْلم: أن النِّيْة عَلَيْهَا مدار عَظِيم مدار الثواب والعقاب فإن المرء يتحدث بعمله الصالح أو يظهره ليكون قدوة صَالِحَة لهُمْ ومثإلا حسناً يقتدون به لا يريد بذَلِكَ إلا وجه الله وابتغاء مرضاته بنشر الفضيلة وإحيائها بين النَّاس من غَيْرَ أن ينظر إلى مدحهم لَهُ وذمهم لَهُ فلا يثنيه شَيْء عن عمل الصالحات ولا يغريه عَلَيْهَا رضاء أحد من النَّاس عَلَى أن يكون يقظاً نبيهاً لا يجعل للغرور والعجب إليه سبيلاً فإن عمله عَلَى ذَلِكَ الوجه الحسن لا يكون رياءً بل ربما يكون مستحباً إن تأكد من اقتداء النَّاس به فِي عمله الصالح وكَذَلِكَ تنظر الشريعة الإسلامية الكريمة إلي جَمِيع الأعمال فإن ترتب عَلَى الْعَمَل فسادٌ كانَ مذموماً وإن ترتب عَلَيْهِ صلاحٌ كَانَ ممدوحاً فجَمِيع أحكامها مبنية عَلَى جلب المصالح ودرء المفاسد وكلها ترمي إلي تهذيب النُّفُوس وتطهير القُلُوب وتربية النوع الإنساني أحسن تربية وتأديبه أفضل الأدب ويكفِي فِي ذَلِكَ قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.
وختاماً فعَلَى العاقل أن يتفكر ويعلم مضرة الرياء وما يفوته من صلاح قَلْبهُ وما يحرم عنهُ من التَّوْفِيق وما يتعرض لَهُ من العقاب والمقت الشديد والخزي الظاهر فمهما تفكر الإنسان وقابل ما يحصل لَهُ من العباد والتزين لّهُمْ فِي الدُّنْيَا بما يفوته فِي الآخرة وبما يحبط عَلَيْهِ من ثواب الأعمال فإنه يسهل عَلَيْهِ قطع الرغبة عنهُ كمن يعلم أن العسل لذيذ ولكن إِذَا بان لَهُ أن فِيه سماً أعرض عنهُ ثُمَّ أي غرض لَهُ فِي مدحهم وإيثار ذم الله لأجل حمدهم ولا يزيده حمد النَّاس رزقاً ولا أجلاً ولا ينفعه يوم فقره وفاقته.
وأما الطمَعَ فيما فِي أيدي النَّاس فبأن يعلم أن الله تعالى هُوَ الرزاق وَهُوَ المسخر للقُلُوب بالمنع والإعطاء وأن الخلق مضطرون فيه.
ولا رازق إلا الله ومن طمَعَ فِي الخلق لم يخل من الذل والخيبة وإن وصل إلي المراد لم يخل عن المنة والمهانة فَكَيْفَ يليق بعاقل أن يترك ما عِنْدَ الله برجَاءَ كاذب ووهم فاسد وقَدْ يصيب وقَدْ يخطيء وإِذَا أصاب فلا تفِي لذته بألم منته ومذلته.
أَمِنْ بَعْدِ غَوْصِي فِي عُلُومِ الحَقَائِقِ ** وَطُولِ انْبِسَاطِي فِي مَوَاهِبِ خَالِقِي

وفِي حِيْنَ إشْرَافِي عَلَى مَلَكُوتِهِ ** أَرَى طَالِباً رِزْقاً إِلى غَيْرَ رَازِقِ

وَأَيَّامُ عُمْرِ المَرْءِ مُتْعَةُ سَاعَةٍ ** تَجِيءُ حَثِيْثاً مِثْلَ لمحَةِ بَارِق

وَقَدْ آذَنَتْ نَفْسِي بِتَقْوِيْضِ رَحْلِهَا ** وَأَسْرَعَ فِي سَوْقِي إِلى المَوْتِ سَائِقِي

وَإِنِّي وَإِنْ أَوْغَلْتُ أَوْ سِرْتُ هَارِباً ** مِنَ المَوْتِ فِي الآفَاقِ فَالمَوْتُ لاَحِقِي

آخر:
شَادَ الأنَامُ قُصُورَهُمْ وَتَحَصَّنُوا ** مِنْ كُلِّ طَالِبِ حَاجَةٍ أَوْ رَاغِبِ

فَارْغَبْ إِلى مَلِكِ المُلُوكِ وَلاَ تَكُنْ ** يَا ذَا الضَّراعَةِ طَالِباً مِنْ طَالِب

وأما ذم الخلق لَهُ فلا يحذر منه فإنه لا يزيده ذمهم شيئاً ما لم يكتبه الله عَلَيْهِ ولا يعجل أجله ولا يؤخر رزقه ولا يجعله من أَهْل النار إن كَانَ من أَهْل الْجَنَّة ولا يبغضه إلي الله ولا يؤخر رزقه ولا يجعله من أَهْل النار إن كَانَ من الَّذِينَ يحبهم الله فالعباد كلهم عجزة لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً فإِذَا قرر فِي قَلْبهِ آفة هذه الأسباب وضررها فترت رغبته عَنِ الرياء وأقبل عَلَى الله قَلْبهُ والعاقل لا يرغب فيما يكثر ضرره ويقل نفعه فهَذَا دواء نافع قالع للرياء من أصله بإذن الله فهَذَا من الأدوية العلمية القالعة مغارس الرياء من أصله بإذن الله وأما الدواء العملي فهو أن يعود نَفْسه إخفاء العبادات وإغلاق الأبواب دونها كما تغلق الأبواب دون الفواحش فلا تنازعه نَفْسُهُ إلي طلب غَيْر الله به. وبالتالي:
فمن كَانَ ذا عقل وعلم وبصيرة عرف شدة حاجته يوم القيامة وشدة فقره إلي صافِي الحسنات فخشي أن يأتي ذَلِكَ الْيَوْم بصلاة أو صيام أو حج أو جهاد أو نحو ذَلِكَ من الأعمال لم يخلصه لله فيحبط عمله فتصير حسناته أنقص من سيئاته ولَوْ كَانَ أخلص الْعَمَل لله فِي الدُّنْيَا لرجحت حسناته عَلَى سيئاته فيدخل الْجَنَّة فَلَمَّا فاته ذَلِكَ الإخلاص فلا تسأل عن ذهاب نفسه حسرات فيخاف اللبيب ذَلِكَ فيغلب عَلَى عقله حذر الرياء والتصنع للعباد ويقبل عَلَى تصحيح عمله وتنقيته من شوائب الرياء حتي يوافِي به يوم القيامة خالصاً صواباً.